ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
" يا غلام . . إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " .
وروى ابن جرير في تفسيره ، والبزار في مسنده من حديث محمد بن إسحاق ، عمن
حدثه ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"
لما أرأد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت : أن أخذه ولا
تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً . فلما انتهى به إلى أسفل البحر يونس
حساً ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت : إن
هذا تسبيح دواب البحر . قال : فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة
تسبيحه فقالوا : يا ربنا . . إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ! قال :
ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا : العبد الصالح
، الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم . قال ؟
فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله : " وهو سقيم " ".
هذا لفظ ابن جرير إسناداً ومتناً . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد . كذا قال .
وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن
بن أخي وهب ، حدثنا عمى ، حدثني أبو صخر ، أن يزيد الرقاشي قال : سمعت أنس
بن مالك ، ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول :
"
إن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهي في بطن
الحوت كال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فأقبلت
هذه الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة : يارب . . صوت ضعيف معروف من بلاد
غريبة . فقال : أما تعرفون ذاك ؟ فقالوا : لا يارب ومن هو ؟ قال : عبدي
يونس . قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة ؟
قالوا : يا ربنا . . أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء
؟ قال : بلى . فأمر الحوت فطرحه في العراء " .
ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به .
زاد ابن أبي حاتم : قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه
هذا الحديث ، أنه سمع أبا هريرة يقول : طرح بالعراء ، وأنبت الله عليه
اليقطينة . قلنا : يا أبا هريرة . . وما اليقطينة ؟ قال : شجرة الدباء ،
قال أبو هريرة : وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض ، أو قال :
هشاش الأرض ، قال : فتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت .
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً من شعره .
فأنبت يقطيناً عليه برحمة **** من الله لولا الله أصبح ضاويا وهذا غريب أيضاً من هذا الوجه . ويزيد الرقاشي ضعيف ، ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم ، كما يتقوى ذاك بهذا . . والله أعلم .
وقد قال الله تعالى :
" فنبذناه " أي ألقيناه " بالعراء " وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار ، بل هو عار منها ،
" وهو سقيم "أي ضعيف البدن . قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ ليس عليه ريش ، وقال ابن
عباس والسدي وابن زيد : كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوش ليس عليه شيء .
" وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " قال
ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد ابن جبير ووهب بن منبه وهلال بن
يساف وعبد الله بن طاووس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخرساني وغير واحد
: هو القرع .
قال بعض العلماء : في إنبات القرع عليه حكم جمة ، منها أن ورقه في غاية
النعومة ، وكثير وظليل ، ولا يقربه ذباب ، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى
آخره ، نياً ومطبوخاً ، ويقشره وببزره أيضاً . وفيه نفع كثير وتقوية
للدماغ وغير ذلك .
وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه
لبنها وترعى في البرية ، وتأتيه بكرة وعشية . وهذا من رحمة الله به ونعمته
عليه وإحسانه إليه . ولهذا قال الله تعالى :
" فاستجبنا له ونجيناه من الغم " أي الكرب والضيق الذي كان فيه " وكذلك ننجي المؤمنين " أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا .
قال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا
أبو يحيى ابن عبد الرحمن ، حدثني بشر بن منصور ، عن على بن زيد ، عن سعيد
بن المسيب قال : سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" اسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئال به أعطى . دعوة يونس بن متى
قال : فقلت : يا رسول الله . . هي يونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال :
هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله تعالى : " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " فهو شرط من الله لمن دعاه به" .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن
كثير بن زيد ، عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب - يعني ابن
سعد - عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من دعا بدعاء يونس استجيب له " قال أبو سعيد الأشج : يريد به : " وكذلك ننجي المؤمنين " . وهذان طريقان عن سعد .
وثالث أحسن منهما : وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمير ، حدثنا
يونس بن أبي إسحاق الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد ، حدثني والدي
محمد ، عن أبيه سعد - وهو ابن أبي وقاص رضي الله عنه - قال : مررت بعثمان
بن عفان في المسجد فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام ،
فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين . . هل حدث في الإسلام شيء ؟
قال : لا . وما ذاك ؟ قلت : لا ، إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد
فسلمت عليه فلأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام قال : فأرسل عمر إلى عثمان
فدعاه ، فقال : مامنعك ألا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال : ما فعلت .
قال سعد : قلت : بلى ، حتى حلف وحلفت . قال : ثم إن عثمان ذكر فقال : بلى
، وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفاً ، وأنا أحدث نفسي بكلمة
سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى
بصري وقلبي غشاوة ، قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي
الأرض ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من هذا ؟ أبو
إسحاق ؟ " قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : " مه " ؟ قلت : لا والله
، الا أنك ذكرت لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك ، قال : " نعم .
. دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت :
" لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فانه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له "
ورواه الترمذي و النسائي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد به .
ذكر فضل سيدنا يونس عليه السلام
قال الله تعالى : " وإن يونس لمن المرسلين " وذكره تعالى في جملة الأنبياء الكرام في سورتي النساء والأنعام ، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " .
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري به .
وقال البخاري أيضاً : حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي
العالية عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى ، ونسبه إلى أبيه " .
ورواه أحمد و مسلم و أبو داود من حديث شعبة به ، قال شعبة فيما حكاه أبو
داود عنه : لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث ، وهذا أحدها .
وقد رواه الإمام أحمد عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن
يونس بن مهران ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى " . تفرد به أحمد .
وراه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان ، حدثنا
عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل ، عن أبي يحيى العتاب ، عن مجاهد ، عن
ابن عباس أن رسول الله عليه وسلم قال : " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا عند الله خير من يونس بن متى " . إسناده جيد ولم يخرجوه .
وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن سعد ابن إبراهيم ،
سمعت حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " . وكذا رواه مسلم من حديث شعبة .
وفي البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن الفضل ، عن عبد الرحمن بن هرمز
الأعرج ، عن أبي هريرة في قصة المسلم الذي لطم وجه اليهودي حين قال : لا
والذي اصطفى موسى على العالمين .
قال البخاري في آخره : " . . . و لا أقول : إن أحداً أفضل من يونس بن متى " وهذا اللفظ يقوى أحد القولين من المعنى : " لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " أي ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس .
والقول الآخر : لا ينبغي لأحد أن يفضلني على يونس بن متى . كما قد ورد في بعض الأحاديث : " لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى "
وهذا من باب الهضم والتواضع منه صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين .