فصل: وأما الحجامة
ففي سنن ابن ماجه من حديث جبارة بن المغلس، ـ وهو ضعيف ـ عن كثير بن سليم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما مررت ليلة أسري بي بملإ إلا قالوا: يا محمد مر أمتك بالحجامة).
وروى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس هذا الحديث: وقال فيه: (عليك بالحجامة يا محمد).
وفي الصحيحين: من حديث طاووس، عن ابن عباس، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم وأعطى الحجام أجره).
وفي الصحيحين أيضًا، عن حميد الطويل، عن أنس، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم مواليه، فخففوا عنه من ضريبته، وقال: (خير ما تداويتم به الحجامة).
وفي جامع الترمذي عن عباد بن منصور، قال: سمعت عكرمة يقول: كان لابن عباس غلمة ثلاثة حجامون، فكان اثنان يغلان عليه، وعلى أهله، وواحد لحجمه، وحجم أهله. قال: وقال ابن عباس: قال نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نعم العبد الحجام يذهب بالدم، ويخف الصلب، ويجلو البصر)، وقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث عرج به، ما مر على ملإ من الملائكه إلا قالوا: (عليك بالحجامة)، وقال: (إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين)، وقال: (إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي)، وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لد فقال: (من لدني؟ فكلهم أمسكوا، فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس). قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجه.
فصل: وأما منافع الحجامة
فإنها تنقي سطح البدن أكثر من الفصد، والفصد لأعماق البدن أفضل، والحجامة تستخرج الدم من نواحي الجلد.
قلت: والتحقيق في أمرها وأمر الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمان، والمكان، والأسنان، والأمزجة، فالبلاد الحارة، والأزمنة الحارة، والأمزجة الحارة التي دم أصحابها في غاية النضج الحجامة فيها أنفع من الفصد بكثير، فإن الدم ينضج ويرق ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتخرج الحجامة ما لا يخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفع للصبيان من الفصد، ولمن لا يقوى على الفصد، وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وتستحب في وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، في الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم في أول الشهر لم يكن بعد قد هاج وتبيغ، وفي آخره يكون قد سكن. وأما في وسطه وبعيده، فيكون في نهاية التزيد.
قال صاحب القانون: ويؤمر باستعمال الحجامة لا في أول الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحركت وهاجت، ولا في آخره لأنها تكون قد نقصت، بل في وسط الشهر حين تكون الأخلاط هائجة بالغة في تزايدها لتزيد النور في جرم القمر. وقد روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (خير ما تداويتم به الحجامة والفصد). وفي حديث: (خير الدواء الحجامة والفصد). انتهى.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خير ما تداويتم به الحجامة) إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارة، لأن دماءهم رقيقة، وهي أميل الى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها في نواحي الجلد، ولأن مسام أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخلة، ففي الفصد لهم خطر، والحجامة تفرق اتصالي إرادي يتبعه استفراغ كلي من العروق، وخاصة العروق التي لا تفصد كثيرًا، ولفصد كل واحد منها نفع خاص، ففصد الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنة فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشوصة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك.
وفصد الأكحل: ينفع من الإمتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويًا، وكذلك إذا كان الدم قد فسد في جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة في الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الودجين: ينفع من وجع الطحال، والربو، والبهر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المنكب والحلق.
والحجامة على الأخدعين، تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده، أو عنهما جميعًا. قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم في الأخدعين والكاهل.
وفي الصحيحين عنه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم ثلاثًا: واحدة على كاهله، واثنتين على الأخدعين.
وفي الصحيح: عنه، أنه احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به.
وفي سنن ابن ماجه عن علي، نزل جبريل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجامة الأخدعين والكاهل.
وفي سنن أبي داود من حديث جابر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (احتجم في وركه من وثء كان به).
فصل: واختلف الأطباء فى الحجامة
على نقرة القفا، وهى القمحدوة.
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي حديثًا مرفوعًا (عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة، فإنها تشفي من خمسة أدواء)، ذكر منها الجذام.
وفي حديث آخر: (عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة، فإنها شفاء من اثنين وسبعين داء).
فطائفة منهم استحسنته وقالت: إنها تنفع من جحظ العين، والنتوء العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثقل الحاجبين والجفن، وتنفع من جربه. وروي أن أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم في جانبي قفاه، ولم يحتجم في النقرة، وممن كرهها صاحب القانون وقال: إنها تورث النسيان حقًا، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن مؤخر الدماغ موضع الحفط، والحجامة تذهبه، انتهى كلامه.
ورد عليه آخرون، وقالوا: الحديث لا يثبت، وإن ثبث فالحجامة، إنما تضعف مؤخر الدماغ إذا استعملت لغير ضرورة، فأما إذا استعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طبًا وشرعًا، فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه احتجم في عدة أماكن من قفاه بحسب ما اقتضاه الحال في ذلك، واحتجم في غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجته.
فصل: والحجامة تحت الذقن
تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم، إذا استعملت في وقتها، وتنقي الرأس والفكين، والحجامة على ظهر القدم تنوب عن فصد الصافن، وهو عرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفخذين والساقين، وانقطاع الطمث، والحكة العارضة في الإنثيين، والحجامة في أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ، وجربه وبثوره، ومن النقرس والبواسير، والفيل وحكة الظهر.
فصل: في هديه في أوقات الحجامة
روى الترمذي في جامعه: من حديث ابن عباس يرفعه: (إن خير ما تحتجمون في يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين).
وفيه (عن أنس كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبعة عشر، وتسعة عشر، وفي إحدى وعشرين).
وفي سنن ابن ماجه عن أنس مرفوعًا: (من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو إحدى وعشرين، لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله).
وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من احتجم لسبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، كانت شفاء من كل داء)، وهذا معناه من كل داء سببه غلبة الدم.
وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء، أن الحجامة في النصف الثاني، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره، وإذا استعملت عند الحاجة إليها نفعت أي وقت كان من أول الشهر وآخره.
قال الخلال: أخبرني عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يحتجم أي وقت هاج به الدم، وأي ساعة كانت.
وقال صاحب القانون: أوقاتها في النهار: الساعة الثانية أو الثالثة، ويجب توقيها بعد الحمام إلا فيمن دمه غليط، فيجب أن يستحم، ثم يستجم ساعة، ثم يحتجم، انتهى.
وتكره عندهم الحجامة على الشبع، فإنها ربما أورثت سددًا وأمراضًا رديئة، لا سيما إذا كان الغذاء رديئًا غليظًا. وفي أثر: (الحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء، وفي سبعة عشر من الشهر شفاء).
واختيار هذه الأوقات للحجامة، فيما إذا كانت على سبيل الإحتياط والتحرز من الأذى، وحفظًا للصحة. وأما في مداواة الأمراض، فحيثما وجد الاحتياح إليها وجب استعمالها. وفي قوله: (لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله). دلالة على ذلك، يعني لئلا يتبيغ، فحذف حرف الجر مع (أن)، ثم حذفت (أن). والتبيغ: الهيج، وهو مقلوب البغي، وهو بمعناه، فإنه بغي الدم وهيجانه. وقد تقدم أن الإمام أحمد كان يحتجم أي وقت احتاج من الشهر.